عين دراهم والمخطط الأخضر

قام سي المكي بقيادة السيارة إلى عين دراهم البارحة. انطلقنا من تونس على الساعة التاسعة والنصف صباحاً، لنصل إلى عين دراهم قبل أول دورة تكوينية مع المواطنين، شباب ونساء، التي تبدأ على الساعة الثانية بعد الزوال.

لم أبدأ دورة تكوينية كأخرى سابقة لها قط، وإن كانت لنفس “المجموعة الهدف”، وإن كانت لنفس الهدف. إن كنت أؤمن باختلاف كل بلدية ومجموعة وأشخاص، فكيف لي أن أقوم بعكس ذلك وأنا أدعي القدرة على إضافة معرفة ما؟

اجتمعنا في قاعة الاجتماعات في البلدية. خمس عشرة امرأة ورجلان، وتعليق سخيف من قبلي على أن الرجل أقلية هنا، ورد لاذع من سيدة: لا فرق بين الجنسين هنا.

بدأنا بالتقديم، الاسم وما يحبونه  في الحياة. ربة منزل فقط، وأحب عين دراهم لاغير. طبعاً، تشويه مكتسب من تلفاز الصغر جعلني أقول بحماسة أوبرا وينفري: ربة المنزل فقط؟ هي مهنة شاقة!

واستمرت اعترافات الحب لعين دراهم. إلى أن وصلنا إلى أب لطفلين.

أنا أب لطفلين. عاطل عن العمل، وزوجتي أستاذة فيزياء. عانيت الأمرّين عند ولادة زوجتي الأخيرة، ويجب أن يقوم ابني بعملية بسيطة قام بها ابن عمه سابقاً في المستشفى هنا، لكنني يجب أن أسافر به إلى تونس الآن. أنا في المنزل أعتني بالأطفال وزوجتي تعمل. نعم.

أحاول جاهدة ألا أرى بعيني الكليشيهات التي نتحدث عنها بعد نزع قبعات العمل. وزاد عدد الحضور، نساء أخريات قدمن للحديث عن المرأة. “نريد أن نبني مشاريع توفر العمل، إن لم يكن لنا نحن مباشرة، ولكن لمن حولنا.”

غضب دفين يجتاحني بعد كل سلسلة تعريف بالنفس في كل دورة. أشخاص حقيقيون أمامي يعرّفون أنفسهم بكل شيء لا يريد آخرون، في مكان آخر، على كرسي آخر، تصديقه: لا يفكر الجميع في نفسه فقط، والجميع قادر على وضع المصلحة الشخصية في مكان يفيد المصلحة العامة.

كنت قد وضعت أوراق ضخمة على الطاولة التي تجمعنا قبل بدء الاجتماع، ولم أدر حينها لم. وضعتها إلى أن يأتي ما يجب أن يُرسم عليها طائراً على الكلمات التي تقال.

لديكم أوراق. لديكم أقلام. ارسموا عين دراهم التي تريدون. التي تحلمون.

أتذكر أنني بعد أن طلبت من الجميع الرسم فكرت في شيء وحيد: من كان سيضحك على هذا التمرين السخيف من أصدقائي؟ هل هاته التنمية البشرية التي نسخر منها جميعاً؟ ماذا أفعل؟

لكن الحاضرين انطلقوا بالرسم. أشجار كثيرة، وأطفال، شمس، – قرابة الأربعة – وعلمين يرفرفان، ومستشفى، ومعمل، وتيليفيريك، ومحطة تحويل نفايات. وتناقشنا. “أحلم بعين دراهم لا يهرب متساكنيها منها.”

تساءلت بصمت: أي آخذ قرار قام بهذا التمرين سابقاً؟ أي حلم يود تحقيقه على أرض الواقع؟

سألت بصوت عال: كم تكلّف كل ورقة حلم؟ وعم السكون للحظة.

“فلنفترض أن كل ورقة تكلّف 50 مليار. كم تكلفة الحلم كاملاً؟”

وبدأت عملية إعادة ترتيب الأوراق بشكل عفوي: أي ورقة في الحلم أهم؟ واشتد النقاش: التشغيل! بل الصحة! بل التعليم! بل البيئة!

ولم نريد معمل هنا؟ نحن رئة تونس. قرار سياسي سيعطل أي معمل في عين دراهم، إذاً لم لا نطمح إلى اقتصاد ترفيهي سياحي؟

كان هذا صوت أستاذ لغة أنجليزية الذي لم يعل على صوت البقية، لكنه صوت يدرّس ثلاثة أقسام في المعهد في عين دراهم. وهو شاعر وكاتب طُرد من المعهد في أواخر التسعينات، لونه أمل ساطع.

وجدت منفذاً بين هاته الأوراق لأتحدث عن المخطط التشاركي. 524 ألف دينار يوفرها صندوق القروض لبلدية عين دراهم، يتم اختيار مآلها عن طريق المواطنين، ويتم صرفها السنة القادمة. ماذا أنتم فاعلون؟

سيدة خمسينية، ربة منزل، تلك التي قد يصفها الإعلام ب”مواطنة عادية”، قالت: يجب أن نضع مشاريع نقترحها قبل الحضور! وقالت هدى، سيدة ناشطة وشعلة ملتهبة: إنهم لا يريدون التشريك حقاً!

ماذا نفعل؟

تحدثنا عن القانون. عن أن الاجتماعات غير المعلنة غير قانونية، ويمكن الطعن في قانونيتها في المحكمة الإدارية. تحدثنا كثيراً عن الحق في المعلومة، والبحث عن الطرق المختلفة للقيام بذلك.

بدأت هدى بالبكاء عند الحديث عن مخطط السنة الماضية.

12 ألف دينار لتعبيد 800 متر! لم؟ لم يقومون بهذا؟

بكت حرقة على بضع آلاف دنانير واضح من نبرة صوتها أن لها فكرة واضحة جداً لمكان آخر كان يمكن أن توضع فيه. سيدة أخرى تجلس في الجهة المقابلة سمحت لدمعتين أن يتحررا من عينيها أيضاً.

البكاء جيد. الغضب جيد. الآن، أين نضعه؟ أردت أن أختم على هاته النقطة الإيجابية في نظري. طلبت سيدة الكلمة. تلك التي قالت “أنا ربة منزل فقط.”

أن نتّحد. هذا ما أريد أن أختم به.

ورفعت الجلسة.

****

تجدون بقية الدورات هنا.

تجدون بقية محاولات مشاركة المعرفة هنا.

أضف تعليق