الموقف الأعلى من القضاء

يَمثَل الرئيس الأول لمحكمة التعقيب – أي أعلى القضاة رتبة في القضاء العدلي – أمام المجلس الأعلى للقضاء لغايات تأديبية، بعد تأخّر الجلسة لعدة أسباب آخرها ما تم تداوله حول مرضه.

في سياق سياسي مختلف، كان يمكن اعتبار جلسة الغد تاريخية. أن يمثل الرئيس الأول لمحكمة التعقيب أمام المجلس الأعلى للقضاء يعني أن هياكل النظام السياسي تؤدي دورها. فتأديب المجلس الأعلى للقضاء لقاض ما هو حماية للقضاء من العناصر التي قد تسيء إليه من داخله. وأن يقوم المجلس الأعلى للقضاء بتأديب أعلى قاض في القضاء العدلي، هو اعتراف للمجلس ذاته بأنه يراجع خيارته، فالمجلس هو من يقوم بالترشيح لمنصب رئيس أول لمحكمة التعقيب والمحكمة الإدارية ومحكمة المحاسبات. بالإضافة إلى أثر هذا التأديب على هياكل أخرى في الدولة يجد الرئيس الأول لمحكمة التعقيب نفسه عضوا فيها بصفته، كالهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين (وهو رئيسها)، ومجلس القضاء العدلي، وغيرها.

إلا أن سياق اليوم مختلف، ولا يسمح بأي مجال للاحتفال بجلسة الغد. وليس هذا وليد الخامس والعشرين من جويلية، وما حمل معه من دعوات لحل المجالس كلها أخطأت أم أصابت أم تجمدت، بل هو وليد مرارة أحملها منذ أفريل 2017.

في منظومة قوانين يخطها الإنسان، للقضاة منزلة الآلهة. فهم القادرون على إصدار الأحكام على الأشخاص، دون أن يناقش الأشخاص هاته الأحكام (وليست المرافعة نقاش بل توسّل وليس الطعن اعتراض بل رجاء ودعاء لقاض آخر). هم قادرون على سلب الحرية، والمال، والأملاك، استناداً على النصوص القانونية وقراءتهم لها. وهم لا يكتسبون هاته السلطة ممن يطبقونها عليه – الشعب – بشكل مباشر. هم يكتسبونها عن طريق مسار أكاديمي تؤثر فيه الحكومة (عن طريق سياسات التعليم) ومجلس نواب الشعب (عن طريق القوانين التي يسنها) ورئيس الجمهورية (عن طريق أداء القسم أمامه في مناصب معينة). وهنا تكمن سلطة المجلس الأعلى للقضاء الحقيقية (وأقصد المفترضة، أي التي تضمن حسن القضاء واللطف فيه). المجلس هو الوحيد القادر على وضع حد لسلطة القضاة بما أنه المسؤول عن تأديبهم، ولا أحد غيره.

دستور الجمهورية التونسية لسنة 2014 وضع تسلسلاً واضحاً لإرساء المؤسسات المؤثرة على حياة المواطنين: انتخابات رئاسية وتشريعية تجرى في موفى سنة المصادقة على الدستور، تفضي إلى رئيس جمهورية منتخب مباشرة من الشعب، ومجلس نواب شعب منتخبين مباشرة من الشعب، ومجلس أعلى للقضاء بعد ستة أشهر من الانتخابات. هل يضمن إرساء المجلس الأعلى للقضاء تحسّن القضاء؟ ليس بالضرورة، فالمرفق هو ذاته، والقضاة ذاتهم، والفرق الأساسي هو في طريقة تأديبهم، أي طريقة وضع الحدود لسلطتهم.

ماذا حدث في أفريل 2017؟

تأخر إرساء المجلس الأعلى للقضاء، وهو أوّل مؤسسة جديدة يتم إرساؤها بعد المصادقة على الدستور (رئاسة الجمهورية والمجلس التشريعي هياكل موجودة وإن تغيّرت صلاحياتها وطريقة انتخابها حسب الدستور). بالتالي، تأخرت إمكانية تأديب القضاة خارج أطر السلطة التنفيذية. رغم انتخاب أعضاء المجلس الأعلى للقضاء كافة، كلّ حسب قطاعه، تعذّر إرساء المجلس لسبب إجرائي بسيط: شغور منصب الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، مما يعطّل دعوة المجلس لانعقاد جلسته الأولى، والتي يقوم بها رئيس الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي (يترأسها رئيس محكمة التعقيب) حسب القانون المنظم للمجلس.

يطول شرح أسباب هذا التعطّل، منها وصول رئيس المحكمة حينها إلى عمر التقاعد، ورفض رئاسة الحكومة تسمية من يعوضّه كما ينصّ قانون الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي، وبالتالي استمرار شغور المنصب وانعدام حلّ قانوني.

ظهرت بدعة قانونية لطيفة حينها، وهي تعديل تشريعي يسمح بتخطي عقبة الدعوة للجلسة الأولى للمجلس الأعلى للقضاء. جاء مقترح الحل من وزارة العدل في شكل مشروع قانون ينقّح القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، يغيّر المسؤول عن الدعوة لانعقاد الجلسة الأولى، فعوض أن يكون الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، اقترحت الوزارة أن يقوم رئيس مجلس نواب الشعب بذلك.

لم لا؟ هي دعوة وحيدة، لا خوف فيها على الفصل بين السلطات، ورئيس مجلس نواب الشعب حينها متمسك بالقيام بالدعوة، إذاً لا خطر حقيقي يكمن في إمكانية رفضه.

إلا أن الكارثة لم تكمن في تلك التفاصيل الشكلانية، بل كانت في ما تضمنه مشروع القانون من فصول أخرى، وخاصة مسألة النصاب.

“وفي صورة عدم توفر النصاب المنصوص عليه بالفقرة السابقة، تنعقد الجلسة صحيحة بعد ساعة على ألا يقل الحضور عن الثلث.” – الفصل 36 (فقرة رابعة)

لقد عدّل مجلس نواب الشعب، بالتواطئ مع الحكومة آنذاك، قانون المجلس الأعلى للقضاء بعد انتخاب أعضائه، وقبل انعقاده. أي تم تغيير قواعد اللعبة قبل ممارستها ولكن بعد معرفة اللاعبين، ويومها وٌئد المجلس الأعلى للقضاء.

يوم جلسة المصادقة على التنقيح، سألت رئيسي أكبر كتلتين في مجلس نواب الشعب حينها، وكان الجواب واضحاً: أحدهما لم يفهم، ووافق الثاني الذي قال “نريد تفادي أي تعطيل للمجلس الأعلى للقضاء.”

ما معنى تفادي التعطيل؟

يتكون المجلس الأعلى للقضاء من ثلاثة مجالس قضائية: مجلس القضاء العدلي، ومجلس القضاء الإداري، ومجلس القضاء المالي. يجلس في كل مجلس 15 عضواً، ويجلس الجميع في الجلسة العامة، والتي تعنى بشؤون القضاء بشكل عام.

ينظر كل مجلس قضائي في المسائل المتعلقة بسير العمل القضائي في نطاق اختصاصه، كتسمية وترقية ونقلة القضاة، رفع الحصانة، والاستقالة، والإلحاق، والإحالة على التقاعد المبكر. يأخذ المجلس القضائي قراراته بأغلبية الحاضرين، باستثناء رفع الحصانة والتأديب والاستقالة، التي تطلب أغلبية متعلقة بعدد الأعضاء.

حسب التنقيح المذكور أعلاه، يمكن لمجلس القضاء العدلي مثلاً أن يسمي ويرقي وينقل قاض بحضور ثلث أعضائه – أي خمسة أعضاء، على أن يصوت ثلاثة منهم بنعم.

أما الجلسة العامة، فلها صلاحيات عدة منها إعداد النظام الداخلي للمجلس، تعيين أربعة أعضاء بالمحكمة الدستورية، ترشيح رؤساء المحاكم، إعداد ميزانية المجلس، وتقريره السنوي، واقتراح الإصلاحات الضرورية لضمان حسن سير القضاء واحترام استقلاليته، إبداء الآراء، وإعداد مدونة أخلاقيات القاضي. يؤخذ القرار في الجلسة العامة بأغلبية الحاضرين، باستثناء النظام الداخلي الذي يتطلب أغلبية ثلثي الأعضاء.

حسب التنقيح المذكور أعلاه، يمكن للمجلس الأعلى للقضاء أن يعيّن أربعة أعضاء بالمحكمة الدستورية بحضور ثلث أعضائه، أي خمسة عشر عضوا، على أن يصوت ثمانية منهم بنعم.

لقد قُتِل المجلس الأعلى للقضاء رمزياً عند التأخر في إرسائه، وقُتِل فعلياً عند تنقيح قانونه، ونرى مراسم تأبينه في كل زوايا مرفق العدالة الظالم، ولا جنازة أبشع من الدعوة لحلّه.

لو كتب لهذا الدستور حياة أخرى، لجعلت من التعديل التشريعي خيانة عظمى لقواعد اللعبة.

أضف تعليق