تعقيب أول في رئيس محكمة التعقيب

قد يبدو رئيس محكمة التعقيب بعيداً عن معظم المواطنين والمواطنات، فمعظمنا لم يلجأ إلى القضاء العدلي في حياته اليومية، وإن تقاضى عدلياً، فلم يضطر إلى اللجوء إلى محكمة التعقيب (أو لم يقدر). فرص الالتقاء بالرئيس الأول لمحكمة التعقيب في الشارع تبدو كذلك ضئيلة لبعد محكمة التعقيب عن معظم التونسيين جغرافياً. إلا أن الشغور الحالي في هذا المنصب، لوصول الهادي القديري لسن التقاعد وخروجه من الرئاسة، يمسّنا جميعاً، لتعدد المناصب الأخرى التي يشغلها الرئيس الأول لمحكمة التعقيب بصفته، ولتطور دوره السياسي على مر السنوات.

ترأس محكمة التعقيب، منذ جانفي 2009 إلى اليوم، 12 أكتوبر 2018، 6 رجال، تعددت طرق تسميتهم باختلاف المحطات السياسية التي مرّت بها البلاد، أهمها الثورة، والتي أدّت إلى اختلاف طرق تسمية الرئيس الأول، وتتالي الحكومات، وتغيير التشريعات، والتي ينتج عنها تغيّر مهام ومسؤوليات الرئيس الأول لمحكمة التعقيب في تونس.

ما هو دور الرئيس الأول لمحكمة التعقيب؟

بالإضافة لدوره كرئيس محكمة التعقيب، يشغل الرئيس الأول لمحكمة التعقيب عدة مناصب أخرى بصفته. قمت ببحث سطحي حول المناصب التي يشغلها الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، كما تنصّ التشريعات الجاري العمل بها منذ سنة 2010 إلى اليوم، والتي قد تتغيّر بحمّى التعديل التشريعي الذي بدأت تجتاح القوانين منذ سنة 2017. لعلّ أبرز تغيير في المهام هو الفصل الذي أتى به الدستور بين السلطة التنفيذية والقضائية، فلم تعد تشوب عضوية المجلس الأعلى للقضاء تدخّل وزير العدل ورئيس الجمهورية فيها (نظرياً)، ولم تعد العضوية في المجلس الدستوري (المحكمة الدستورية في دستورنا الحالي)، مضمونة بالصفة.

أسئلة طرحت نفسها عندما اكتشفت عضوية الرئيس الأول لمحكمة التعقيب في المجلس الوطني لتنظيم الأحكام التشريعية والترتيبية، وهو مجلس أُحدث منذ سنة 1996 وتغيّرت تسميته وبعض تفاصيله بعدها، ولم أسمع به قط، ولم أتمكن من التأكد إن كان مازال على قيد النشاط.

تعقيب على التعقيب 2

يتحمّل رئيس محكمة التعقيب مسؤولية العضوية في المجلس الأعلى للقضاء منذ سنة 1967، حين تمّ إحداثه بقانون عدد 29 لسنة 1967، مع فارق الاستقلالية طبعاً بين المجلس آنذاك والمجلس الذي ينص عليه دستور 2014، واختلاف أعضائه ورئيسه ومهامه، التي أصبحت تشمل القضاء العدلي والمالي والإداري. تنقيح القانون المنظم للقضاء والمجلس الأعلى للقضاء، سنة 2005، غيّر مهام الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، فبعد أن كان رئيساً للجنة تأديب القضاة، أصبح رئيساً للجنة الطعن في قرارات تأديب القضاة، وهو حق تحصّل عليه القضاة آنذاك بعد أن كانت قرارات تأديبهم غير قابلة للطعن.

عضوية رئيس المحكمة في المجلس الأعلى للقضاء تحوّلت وقتياً إلى عضوية في وترؤس للهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي، بعد أن تمّ حل المجلس الأعلى للقضاء وتعويضه بها سنة 2013. تسلّمت هاته الهيئة الوقتية مقاليد الحكم في القضاة العدليين، من تأديب وترقية وتسمية، وأدلت برأيها في القانون الخاصة بالقضاء، إلى أن أصبحت الحلقة الأضعف في إصلاح القضاء سنة 2017، حينما أدى خروج رئيسها – الرئيس الأول لمحكمة التعقيب – على التقاعد، وترك شغور منصبه فراغاً مفتعلاً استغله المشرّع لتعديل القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، بعد أن رفض السلطة التنفيذية لتسمية أحد القضاة المقترحين من قبل الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي، لسد الشغور في رئاسة محكمة التعقيب. فوضى؟ طبعاً، فرئيس محكمة التعقيب هو من كان من المفترض له أن يدعو المجلس الأعلى للقضاء لاجتماعه الأول. والمجلس الأعلى للقضاء هو المسؤول عن اقتراح أسماء القضاة السامين – منهم، طبعاً، رئيس محكمة التعقيب.

يترأس الرئيس الأول لمحكمة التعقيب الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، منذ أفريل 2014، وهي الهيئة الوحيدة التي تمارس إحدى مهام المحكمة الدستورية المفقودة. تتركب هاته الهيئة من 6 أعضاء، 3 منهم أعضاء بالصفة. إن شغور منصب الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، يرادف نقص أحد أعضاء هاته الهيئة الوقتية، ويرادف أيضاً نقص الأغلبية اللازمة لأن تتخذ قراراتها. الطعن في مشروع قانون المصالحة مثلاً، والذي لم تتوصل فيه الهيئة إلى قرار لتساوي الأصوات في الكفتين، لتمكّنت من أخذ قرار واضح في دستورية القانون ب3 أعضاء فقط. أترك لكم حرية التكهّن بماهية القرار.

يترأس أيضاً الرئيس الأول لمحكمة التعقيب المجلس الأعلى لتنازع الاختصاص، وهو مجلس يقوم بالنظر في النزاعات بين القضاء العدلي والقضاء الإداري. يتداول رئيس محكمة التعقيب ورئيس المحكمة الإدارية على رئاسة هذا المجلس كل سنتين. ينتهي ترؤس الرئيس الأول لمحكمة التعقيب لهذا المجلس في أول سنة 2019، ويجد المجلس الأعلى لتنازع الاختصاص نفسه دون رئيس، لشغور منصب من يترأسه في هاته الدورة.

تقلّد الرئيس الأول لمحكمة التعقيب مهام أخرى ظرفية، منها عضوية في لجنة تم إحداثها بمرسوم العفو العام سنة 2011، تنظر في كل خلاف حول تطبيق أول مرسوم بعد الثورة. الطريف في الأمر هو أنه تم تغيير رئيس محكمة التعقيب بعد أسبوعين من إصدار هذا المرسوم. أيضاً، ترأس الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، المجلس الأعلى للقضاء لمدة 5 أشهر منذ ماي 2018، إلى أن بلغ الهادي القديري سن التقاعد. يجب التذكير أن لرئيس المجلس الأعلى للقضاء القدرة على دعوة المجلس الأعلى للقضاء للانعقاد.

لماذا أتحدث عن هاته الفوضى؟

إن تاريخ ميلاد أي قاض، وتاريخ تسميته كرئيس أول لمحكمة التعقيب، وقدرة وزير العدل على أخذ قرار التمديد في سن تقاعده، من عدمه، من الأمور التي قد تغيّر مجرى العدل في تونس، إن آمنا حقاً بقدرة الهياكل العمومية على التأثير في حيواتنا.

تعقيب على التعقيب

إن نظرنا إلى عدد وزراء العدل منذ سنة 2009، نجد أن تغييرهم كان مصاحباً لتغيّر الرؤساء الأولين لمحكمة التعقيب: تغيّر التوكابري سنة 2009 ليصبح بوعوني هو وزير العدل، فتغير معه محمد اللجمي، ليصبح المنجي الأخضر الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، وعندما أصبح الشابي وزيراً للعدل في حكومة السبسي سنة 2011، أصبح فريد السقا رئيساً أولاً لمحكمة التعقيب بعده، واستمر هذا التغيير بعد أن أصبح البحيري وزيراً للعدل، ليصبح إبراهيم الماجري رئيساً أولاً، إلا أنه شهد استقراراً بعدها في منصبه رغم تعاقب وزيري عدل عليه. شهد خالد العياري كذلك استقراراً لرغم تتالي 4 وزراء عدل في عهده، آخرهم الجريبي – الموهم بمنح التمديد بعد سن التقاعد والرافض له فعلاً. يجدر بالذكر أنه قد تم سابقاً الإبقاء على المنجي الأخضر كرئيساً أولاً لمحكمة التعقيب بعد التقاعد، سنة 2010. ويجب أيضاً التذكير بأن جمعية القضاة قد عارضت التمديد بعد التقاعد لخالد العياري والهادي القديري، لما ترى فيه من ضرب لاستقلالية القضاء، وتدخّل للسلطة التنفيذية فيه.

إن نظرنا إلى رؤساء الحكومة، نجد أن جمعة والصيد قد قاما بممارسة دورهما في تسمية الرئيس الأول لمحكمة التعقيب بعد اقتراح الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي، ليأتي بعدها الشاهد ويرفض ممارسة هذا الحق (الواجب؟)، فيترك شغوراً تحدثت عنه أعلاه. تغيّر هذا بعد دخول قانون المجلس الأعلى للقضاء حيّز النفاذ، لتصبح هاته مسؤولية رئيس الجمهورية بعد ترشيح الجلسة العامة للمجلس الأعلى للقضاء وتشاوره مع رئيس الحكومة.

سيكون الرئيس الأول لمحكمة التعقيب المقبل ثان رئيس أول تتم تسميته حسب الدستور التونسي: مقترح من الجلسة العامة للمجلس الأعلى للقضاء، بأمر رئاسي بعد التشاور مع رئيس الحكومة. في إطار الثلوج التي تحيط العلاقة بين رئيسي السلطة التنفيذية، هل من سبل للتشاور بينهما؟

التعقيب في الصلاة دعاء لشيء ما بعد أدائها. أما التعقيب في اختيار الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، فهو دعاء لا لرد القضاء، بل اللطف فيه.

1 comments

  1. […] في سياق سياسي مختلف، كان يمكن اعتبار جلسة الغد تاريخية. أن يمثل الرئيس الأول لمحكمة التعقيب أمام المجلس الأعلى للقضاء يعني أن هياكل النظام السياسي تؤدي دورها. فتأديب المجلس الأعلى للقضاء لقاض ما هو حماية للقضاء من العناصر التي قد تسيء إليه من داخله. وأن يقوم المجلس الأعلى للقضاء بتأديب أعلى قاض في القضاء العدلي، هو اعتراف للمجلس ذاته بأنه يراجع خيارته، فالمجلس هو من يقوم بالترشيح لمنصب رئيس أول لمحكمة التعقيب والمحكمة الإدارية ومحكمة المحاسبات. بالإضافة إلى أثر هذا التأديب على هياكل أخرى في الدولة يجد الرئيس الأول لمحكمة التعقيب نفسه عضوا فيها بصفته، كالهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين (وهو رئيسها)، ومجلس القضاء العدلي، وغيرها. […]

    إعجاب

أضف تعليق