هل السلطة المحلية سلّم السلطة المركزية؟

إن حمى الانتخابات الوطنية (تشريعية أو رئاسية) من أسرع الأمراض السياسية تفشيا – وأقول مرضا لأنها تصيب جلّ المترشحين، كأنها قدر يصيبهم وليس غاية يسعون لها بتخطيط محكم ورؤية واضحة.

تمثّل السلطة المحلية إحدى أدوات التشخيص التي تساهم في كشف مرض السلطة المركزية: هل أن المترشح متدرّج في اهتمامه واكتسابه لخبرة عميقة وهل أن قاعدته الشعبية متجذرة كزيتونة أم أنها نبتة طماطم موسمية؟

أقصد بالمترشح: الشخص الطبيعي والمعنوي، ذلك المواطن الذي يسعى إلى الرئاسة بنوعيها أو ذلك الحزب أو الائتلاف أو أي وعاء فكري آخر الذي يطمح إلى انتزاع كتلة ذات سلطة ما.

بينما تحتفل تونس بانتقال سلس للسلطة بعد وفاة أول رئيس منتخب بعد المصادقة على الدستور، وبتحديد تاريخ الانتخابات الرئاسية المبكرة وعدم تغيير تاريخ الانتخابات التشريعية رغم ضغوط الأحزاب غير الجاهزة لتأجيلها – ولا أرى لا أرى سببا آخرَ منطقيا – لا يمكن التوصل إلى أي تحليل أو عبرة من الوضع والخيارات السياسية دون الأخذ بعين الاعتبار التغيير الأهم الطارئ في النظام السياسي والمتمثل في اللامركزية.

لجأ كثيرون إلى الاستناد إلى نتائج الانتخابات البلدية لمحاولة تلمّس الوجه الذي ستأخذه الانتخابات التشريعية بعدها بسنة ونصف، ولعلّ أحد تلك التوقعات لم تخب: زيادة واضحة في عدد القائمات التشريعية المستقلة مقارنة بانتخابات سنة 2014 وكأنها امتداد لموجة القائمات المستقلة التي شهدتها الانتخابات البلدية في 2018.

وعمد البعض إلى انتقاد أسماء ترشّحت في قائمات تشريعية وقد وجدت لها طريقا للمجالس البلدية بل وتترأسها أحياناً، كرئيس بلدية القصرين، كمال الحمزاوي، الذي يترأس قائمة الانتخابات التشريعية لحزب تحيا تونس لسنة 2019، بعد أن قاد قائمة الانتخابات البلدية لحزب نداء تونس سنة 2018 وقائمة الحزب ذاته في الانتخابات التشريعية الفارطة. يتأرجح النقد بين تساؤل عن سبب تركه منصبه كرئيس بلدية والحال أنه لم يمرّ عليه حول وبين أدائه الهزيل حين كان عضوا في مجلس نواب الشعب، وأظنه فقط محبّاً للترؤس والحصانة مدمنا على الانتخابات شاذا لا يقاس عليه.

وتتبادر إلى الأعين حملات مناشدة سابقة لتاريخ فتح باب الترشحات إلى الانتخابات الرئيسية، لا يشد العين منها إلا ما لم يُجتر من أسماء ترشحت في السابق أو عرف عنها تمسكها بالسلطة، كاسم فاضل موسى، رئيس بلدية أريانة (تنويه: أعتمد على صفحة يتيمة في الفضاء الأزرق للاستدلال على رغبته في الترشح، لا علم لي إن كان قد وافق عليها أو اعترض).

الترشح الممكن لرئيس بلدية ما، أياً كانت، أمر مثير للانتباه، قد يذكّر برؤساء دول بدأ صعودهم السياسي من منصب رئيس البلدية مثل هولاند وشيراك (فرنسا) وأردوغان (تركيا) وأحمدي نجاد (إيران) وميونغ باك (كوريا الجنوبية) وكوليدج (الولايات المتحدة) وغيرهم. إلا إنّ لهؤلاء أكثر من قاسم مشترك، إذ كان لمعظمهم أكثر من مدة نيابية في رئاسة البلدية، بل وارتقى بعضهم إلى مناصب أخرى على مستوى جهوي. أي أن التدرّج من خلال السلطة المحلية ممكن، إما عن طريق الامتداد الزمني أو العمودي وصولاً إلى رأس الدولة.

مازالت السلطة المحلية في تونس في درجاتها الأولى، ولا أتحدث هنا عن إرساء المنظومة القانونية فحسب، بل أيضاً عن انتخاب كافة هياكلها – وإن بقي انتخاب ممثلين عن الجهات والأقاليم حبر دستوري على ورق – ومرور الوقت الكافي لتماهي هاته الهياكل مع الواقع، وتشبعه بها، بطريقة مشابهة لما نراه في المجلس التشريعي (وهو مازال طفلاً!). لا يمكن أن يمرّ انتخاب أكثر من 7000 شخص على مستوى محلي مرور الكرام على واقع الديمقراطية على مستوى وطني، فهو إن لم يهيئ أسماء سياسية جديدة، فقد يخلّصنا منها مستقبلاً لسوء أدائها. يجب ألا ننسى أن 350 رئيس ورئيسة بلدية يأمرون بصرف ميزانيات بلدياتهم باستقلالية، وأنهم – نظرياً على الأقل – على علم بما يأكل المواطنون (السوق والمسلخ) وكيف يسكنون (البناء) وكيف يتنقلون (البنية التحتية) وكيف يلعبون ويقرأون ويدرسون ويحافظون على صحتهم. هذا ولم ننظم بعد الانتخابات الجهوية، التي ستفرز 24 رئيس ورئيس جهة إلى جانب أعضاء مجالسها، فيصبحون على دراية تامة بالواقع المعيشي للمواطنين في جهاتهم، إن أرادوا طبعا.

بينما نشارك في هاته الانتخابات المقبلة، كمترشحات أو ناخبين أو ناقدات أو معارضين، من المجدي أن نبقي عيناً تحليلية على تقاطع السلطة المحلية والوطنية (تشريعية وتنفيذية)، وأي قراءة تفصل الوطني عن المحلي والجهوي، فهي كمن ينظر إلى وجهه في مرآة مهشمة. ليس هذا هوسا بالسلطة المحلية، بل هو تغزل بما تفتحه من فرص لارتقاء سلم الحكم، شرط التأني وحسن الأداء. كلما تأملت فيما يتيحه الحكم المحلي من فرص للتعلم وإثبات الذات، كلما زاد عجبي ممن يقفز مباشرة إلى أعلى السلم، إذ ما أشد ألم السقوط كلما زاد الارتفاع – سقوط الفشل في الانتخابات أو الفشل في تغيير الواقع.

* المقال الأول من سلسلة مقالات حول علاقة السلطة المحلية بالسلطة المركزية

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s