تمّ أخيراً نشر قرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين المتعلق بالطعن في مشروع القانون المتعلق بالسجل الوطني للمؤسسات.
أثار هذا القانون حفيظة العديد من الجمعيات، حيث رأت أن فيه ممارسة سياسية خبيثة تضيّق على الجمعيات، فتدخل من شبّاك قانون آخر بعد أن تم صدّ باب قانون جمعيات جديد. إلا أن قرار الطعن في مشروع القانون أثار اهتمامي لأنه يعكس طريقة تعامل أعضاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، مع الطعون التي تمّ تقديمها، وهو توجّه سوف تُبنى عليه تأويلات مستقبلية، ستستمر حتى بعد إرساء المحكمة الدستورية، إن رأت النور أبداً.
الطعن الأول خاص بالشكل والإجراءات، ويتكون من قسمين:
- طعن بعدم دستورية مشروع القانون لشكله، الذي أخذ صبغة عادية، رغم تطرّقه إلى مواضيع ينصّ الدستور صراحة، في الفصل 65، على أن أي تشريع متعلّق بها يدخل في نطاق القوانين الأساسية، لا العادية، وهي تنظيم العدالة والقضاء وتنظيم الجمعيات والحريات وحقوق الإنسان والمعطيات الشخصية.
- طعن بعدم دستورية مشروع القانون لعدم عرضه على المجلس الأعلى للقضاء، رغم تنصيص الدستور على ضرورة عرض أي قانون متعلق بالقضاء على المجلس الأعلى للقضاء وجوبا، حسب الفصل 114.
الطعن الثاني خاص بالجمعيات، ويتكون من قسمين:
- استناد مرة أخرى على الفصل 65، وعلى أن مشروع القانون يقوم بإقرار مبدأ “التسجيل الوجوبي للجمعيات وشبكات الجمعيات على معنى التشريع المنظم لها”، فيجب أن يكون عن طريق قانون أساسي لا في شكل قانون عادي.
- ربط تسجيل الجمعية بوجود بطاقة الإعلام بالبلوغ لوجودها القانوني، ومنعها من مباشرة نشاطها ومعاقبتها في حالة عدم التسجيل، فيستند الطعن على أن هذا الشرط “تضييق جدي على مبدأ تكوين الجمعيات بمجرد التصريح”، ويمس هذا من الفصل 35 من الدستور الذي ينص على الحق في تكوين الجمعيات، والفصل 49 الذي ينص على أن القوانين يضع ضوابط الحقوق والحريات وممارستها دون النيل من جوهرها، وتوضع الضوابط لمقتضيات محددة.
الطعن الثالث خاص بالمعطيات الشخصية، ويتكون من قسمين:
- مخالفة مشروع القانون لمبدأ حماية الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية لتنصيص مشروع القانون على إمكانية اطلاع العموم على المعلومات الخاصة بالمستفيدين الحقيقيين، مما يخالف الفصل 24 من الدستور، الذي ينص على حماية الدولة للحياة الخاصة والمعطيات الشخصية.
- المس من حرية المبادرة والاستثمار عندما يتم الكشف عن هوية المستفيد الحقيقي، مما يتعارض والفصل 21 من الدستور، الذي ينص على ضمان الدولة للحقوق والحريات الفردية والعامة.
من بين هاته الطعون وأقسامه، قبلت الهيئة طعناً واحداً، وهو الخاص بالمعطيات الشخصية، ارتكازاً على الفصل 24 من الدستور، الخاص بحماية الدولة للمعطيات الشخصية، لا ارتكازاً على المس من حرية المبادرة الاقتصادية، وارتكازاً على الفصل 21 الذي ينص على ضمان الدولة للحقوق والحريات الفردية والعامة، وعلى الفصل 49 الخاص بعدم نيل التشريعات الضابطة للحقوق والحريات من جوهرها.
كيف فهمت هذا القرار؟
إن قبول طعن ورفض ما عداه هو نتيجة تأويل معيّن، لن يؤثر فقط على قرارات الهيئة المستقبلية، بل هو إشارة سياسية للمشرع – خضراء كانت أم حمراء.
فيم يخص الحريات والحقوق، رأت الهيئة الخطر على المعطيات الشخصية حقيقياً – يمسّ من التزام الدولة بحمايتها حسب الدستور، وأن الخطر على الجمعيات غير حقيقي – لا يمسّ من حرية تكوين الجمعيات، والتي كذلك يضمنها الدستور، رغم أن الفصل 21 والفصل 49 ينطبقان على حرمة المعطيات الشخصية وحرية تكوين الجمعية في آن واحد. الغريب في الأمر أن الطعن الخاص بالمساس بالمعطيات الشخصية لم يرتكز على الفصل 49 من الدستور، بل تم تأييد الطعن الخاص بالحق في تكوين الجمعيات به. رأت الهيئة أن التغيير الطارئ على إحداث الجمعيات، المتعلق بالتسجيل الوجوبي، رأته لا يمس من القواعد التي تنظم الجمعيات، بل كونه من “المسائل الواقعية التي لا ترتقي إلى سند للطعن بعدم الدستورية”. أي أن الواقع المُثبت لا يرتقي إلى كونه سبب جيّد، بينما “عدم تضمين البيانات المحددة للهويات” في الفصل 10 من مشروع القانون “يقتضي المزيد من التدقيق”، رغم تنصيص الفصل 19 من نفس المشروع على أن المركز الخاص بالسجل الوطني للمؤسسات “يضبط نموذجاً لكل البيانات الخاصة بكل عمليات التسجيل”؟ أليس هذا بواقع أيضاً؟ هل أن واقع المعطيات الشخصية أكثر دستوريةً من واقع تكوين الجمعيات؟
فيم يخص شكل القانون – عادي أم أساسي، فإن في رفض الهيئة للطعن بعدم دستورية مشروع القانون على هذا الأساس تأويل لكلمة “تنظيم” في الفصل 65 من الدستور. متى يبدأ تنظيم الجمعيات ومتى ينتهي؟ ما هي حدود تنظيم العدالة والقضاء؟ ألا تؤثر إضافة مرحلة أخرى لإمكانية الجمعيات لممارسة نشاطها، ألا يؤثر هذا على تنظيمها؟ هل أن تغيير تسمية خطة قضائية ينطوي تحت تنظيم القضاء؟
أما فيم يخص رفض الطعن الخاص باستشارة المجلس الأعلى للقضاء، فإن الهيئة قد أوّلت الفصل 114 بطريقة تحدّ من أهمية رأي المجلس، بتضييق معنى “القوانين المتعلقة بالقضاء”. هل أن القضاء هيكل فقط أم أيضاً ممارسة؟
إن الطعون أداة سياسية بامتياز – فالنائب الذي يصوّت على قانون ما يود تمرير سياسة ما، آملاً أن تكون كل موازين القوى – ولا أقول التأويلات – في صفه كي لا يسقط لعدم دستوريته. والنائب الذي يطعن في دستورية مشروع قانون ما، هو نائب يأمل في أن يوقف سياسة ما، آملاً أن يكون في نص القانون ما يمكن الطعن في دستوريته.
كيف يمكن للهيئة الوقتية ألا تقوم هي الأخرى بتأويل يتماشى ورأيها في سياسة الدولة في ظل الدستور؟ هل من روح للدستور إن تم عزل تأويله عن الواقع السياسي؟ ما معنى حرية ما إن لم يكن هناك إطار سياسي لحدودها وتوقعات المجتمع لها؟
جاء قرار الهيئة في تجلّ مخيف لفصل النظرة التقنية عن السياسة العامة – وهو فصل حرفيّ لا يمكن الجزم عملياً أنه لم يكن نتيجة ضغوطات هي في حد ذاتها سياسية لا تقنية.
إن الوقوف مقام قاض دستوري، وإن كان وقوفاً مؤقتاً طالت الرغبة في الجلوس من بعده – إن هذا الوقوف يخط ملامح محكمة دستورية تعسّر مخاضها. فهيئة تأخذ قرارات تقنية لا تستجيب للواقع السياسي، هي هيئة تمهّد لمحكمة دستورية تقنية لا تأخذ مواقف واضحة تعكس رؤيتها للدستور في ظل الواقع.
إن التحكيم القانوني وخاصة الدستوري هو قلب العاصفة السياسية: يمكنه أن يبدو من السطح هادئاً ساكناً – لكنه في العمق، محركها. إلى أن يأتي وقت يخط الذكاء الاصطناعي فيه تشريعاتنا، يبقى فصل التقني عن السياسي غباء مصطنع.
صدر قرار الهيئة بتاريخ 4 سبتمبر 2018، وتم نشره بالرائد الرسمي بعد 10 أيام.
****
دعوني أضع نص فصول الدستور هنا، لأن الشيطان مستلق ههنا.
الفصل 21:
“[…] تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم.”
الفصل 24:
“تحمي الدولة الحياة الخاصة، […] والمعطيات الشخصية. […].”
الفصل 35:
“حرية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات مضمونة.
تلتزم الأحزاب والنقابات والجمعيات في أنظمتها الأساسية وفي أنشطتها بأحكام الدستور والقانون وبالشفافية المالية ونبذ العنف.”
الفصل 49:
“يحدد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها.
ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. […]”
الفصل 65:
“[…] تتخذ شكل قوانين أساسية النصوص المتعلقة بالمسائل التالية:
- […]
- تنظيم العدالة والقضاء،
- […]
- تنظيم الأحزاب والنقابات والجمعيات والمنظمات والهيئات المهنية وتمويلها،
- […]
- الحريات وحقوق الإنسان.”
الفصل 114:
“[…] وتبدي (الجلسة العامة للمجلس الأعلى للقضاء) الرأي في مقترحات ومشاريع القوانين المتعلقة بالفضاء التي تعرض عليها وجوباً، […].”